منذ استقلالها عام 1956، ركزت تونس على تطوير القطاع التعليمي وأولته أهمية خاصة. في 1959 وبعد الاستقلال بقليل،، نفذت الحكومة خطة تعليمية، حيث تم النظر إلى التعليم بصفته استثمار وطني ومُحدد أساسي من محددات النمو الاقتصادي التونسي. وبعد تقييم مستفيض لنقاط قوة وضعف القطاع التعليمي على مدار عدة سنوات، تم إنشاء هيئة تعليم وطنية في عام 1967 لتقديم التوجيهات والتوصيات. وسرعان ما وافقت الحكومة على هذه التوصيات وأدمجتها بخطط التنمية الوطنية.
استدعى تحقيق الأهداف المختلفة تنمية متوازنة ومتكاملة على كافة مستويات التعليم: من الزيادة في معدلات الالتحاق بالتعليم الابتدائي والثانوي، إلى زيادة في التركيز على تعليم العلوم والرياضيات. كما كانت الهيئة على دراية بضرورة وجود كادر تعليمي مؤهل لتحقيق هذه الأهداف، مع ضرورة تحضير وتكوين الكوادر المؤهلة عبر التعليم الجامعي. من ثم، ركزت إصلاحات ما بعد الاستقلال بقطاع التعليم العالي على إنتاج عمالة للإدارة التونسية الجديدة، قادرة على بناء اقتصاد حديث بما يتوافق مع رؤية قائد الاستقلال الحبيب بورقيبة. لذا تم التوسع في الإنفاق على التعليم حيث أصبحت تونس من أكبر الدول المُنفقة على التعليم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. تنفق تونس حالياً أكثر من خُمس ميزانية الدولة على التعليم، بما بلغ في عام 2015 6.6 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي.
لقد كان للتوسع في التعليم آثار إيجابية مستدامة لا ينكرها أحد على الاقتصاد، وعلى الصحة، وعلى الوضع الاجتماعي الاقتصادي للنساء وعلى السياسة في الآونة الأخيرة، والانتقال السلمي إلى الديمقراطية بعد الثورة. فالنساء الناشطات المتعلمات تعليماً جيداً لعبن دوراً محورياً في مناوئة التطرف الديني. كما أن النظام التعليمي هيأ نخبة تونسية متعلمة عليها طلب كبير في أوروبا وكندا ودول الخليج.
لكن في الوقت الراهن، تواجه تونس أزمة تعليم عميقة بالنسبة لأغلب الطلاب. فتزايد عدد الخريجين لم يكن مصحوباً بتحسن موازي في جودة التعلم. نظراً للمبالغ الكبيرة المُستثمرة، فإن عائد الاستثمار (وهو هنا نتائج الطلاب التعليمية) لم يكن مرضياً، وانحدر مستوى التعليم بدرجة كبيرة، بحسب المقاييس الدولية لجودة التعليم، مثل برنامج تقييم الطلاب الدولي (PISA) وتوجهات الإنجاز في دراسة الرياضيات والعلوم (TIMSS). بحسب تقييم PISA لعام 2015، جاء تصنيف تونس في المرتبة 66 من بين 70 دولة مشاركة في التصنيف وجاء تقييم أغلب الطلاب المشاركين تحت مستوى الكفاءة التعليمية
لقد أحسّ التونسيون مؤخراً بصعوبات تنفيذ السياسات والبرامج التعليمية بكفاءة، وأعربوا عن إحساسهم بالإحباط من المنظومة التعليمية. تُظهر بيانات الدورة السادسة من الباروميتر العربي أن مستوى رضا التونسيين عن النظام التعليمي هو كالتالي: 70 بالمئة من التونسيين غير راضين عن النظام التعليم، في حين أعرب 29 بالمئة عن رضاهم.
تاريخياً، شهد قطاع التعليم في تونس إصلاحات كبرى عديدة. ففي عام 1958 سعت الحكومة التونسية إلى توحيد وتأميم النظام التعليمي، وقسّمته إلى ثلاث مراحل (الابتدائية، الثانوية، التعليم العالي) وجعلت التعليم إلزامياً ومجانياً لجميع الأطفال. شهدت أواخر الستينيات من القرن العشرين تعريب مقررات التعليم الابتدائي، ومنح الأولوية للغة العربية وجعلها لغة دراسة جميع المواد الدراسية. وأصبحت الفرنسية هي اللغة الثانية، لغة المعلومات والاتصالات التي تتيح الاطلاع على الثقافة العلمية والتقنية. وفي الوقت نفسه تقريباً، بدأ تعريب التعليم التقني والعلمي ومثّل سمة مهمة من سمات السياسة التعليمية. ومنذ عام 1989 طرأت إصلاحات تشريعية على النظام التعليمي، كانت تهدف إلى تحسين مستوى التعليم وتهيئة أفضل توازن بين التكوين المهني والتوظيف. تُوجت الإصلاحات بقانون عدد 91-65، وكان الهدف هو تعزيز مبدأ مجانية التعليم في مختلف المراحل التعليمية، وتحقيق التعليم الأساسي. تم تقسيم التعليم الأساسي إلى مرحلتين: الأولى لست سنوات والثانية لثلاث سنوات. وكان من المقرر أن يتم تدريس جميع المواد المتصلة بالفنون والعلوم والتعليم التقني باللغة العربية في كافة فرق التعليم الأساسي. أما بالنسبة للتعليم العالي، تم إصلاح منظومة الليسانس والماجستير والدكتوراه استجابة لتطور التعليم العالي الأوروبي في 1999 بموجب إعلان بولونيا الذي اعتمدته 29 دولة أوروبية. وكان الهدف من الإصلاح هو ضمان جودة التعليم العالي، والتشجيع على حراك الطلاب والمعلمين، وتيسير معادلة الشهادات ودمج الشباب بسوق العمل.
في ظل هذه الخلفية، فإن تقسيم البيانات المتعلقة بمستوى عدم الرضا عن النظام التعليمي حسب الفئات العمرية يقدم لنا النتائج التالية: أكثر من 71 بالمئة من المستطلعين بين 18 و36 عاماً غير راضين عن النظام التعليمي. ولقد كان الأفراد من هذه الفئة العمرية هم المستهدفون الأساسيون باثنين من الإصلاحات المذكورة أعلاه (إصلاح التعليم الأساسي ومرحلة الليسانس والماجستير والدكتوراه). كما أن 73 بالمئة من الفئة العمرية 37 إلى 52 (وهم الفئة المستهدفة بتعريب التعليم) أعربوا عن عدم رضاهم عن النظام التعليمي. يكشف عدم رضاهم عن أن الإصلاحات المتعاقبة التي تمت على مدار السنوات الأخيرة لم يكن لها الأثر المنشود.
كما تكشف البيانات أن عدم الرضا عن النظام التعليمي في كل مرحلة من مراحل التعليم يتعدى 70 بالمئة بالنسبة لمن حصّلوا التعليم الأساسي أو أكثر. كما وأن المستطلعون من حملة الماجستير والدكتوراه هم الأكثر إعراباً عن عدم الرضا.
ليس مما يستدعي الدهشة أن أعلى معدلات عدم رضا كانت في محافظات قابس وقبلي وسيدي بوزيد وتطاوين، حيث زادت نسبة غير الراضين عن التعليم 80 بالمئة من المستطلعين. هذا السخط الجهوي يمكن تفسيره بناء على عدد من الأسباب: معدلات التسرب العالية من التعليم، وقلة المعلمين المؤهلين للمدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية، وتدني نسب الالتحاق بالجامعات التونسية “الوجيهة” ومعدلات البطالة العالية.
ورغم عدم رضاهم بالمنظومة التعليمية، فقد أفاد التونسيون بأن التعليم لا يزال أولوية أساسية (بعد الصحة) فيما يخص الإنفاق الحكومي.
لقد فاقمت جائحة فيروس كورونا من أزمة التعليم. وفي محاولة للحد من انتشار الوباء، تم إغلاق المدارس ستة أشهر (من 12 مارس/آذار إلى 15 سبتمبر/أيلول 2020) مع توفر جد محدود للتعليم عبر الإنترنت وإلغاء الاختبارات الداخلية للفصل الدراسي الثالث. مع العودة إلى المدارس هذا العام الدراسي (2020 – 2021)، فإن تلاميذ المدارس الابتدائية وقبل الثانوية والثانوية يرتادون المدارس يوم ويوم بالتبادل، لتجنب ازدحام قاعات الدراسة. نتيجة لهذا، تم تخفيف المقرر الدراسي، لكن دون التنازل عن الأساسيات. تشعر عائلات كثيرة باضطراب عميق في العملية التعليمية، إذ يقول 47 بالمئة من المستطلعين إن آثار فيروس كورونا على تعليم الأطفال سلبية للغاية، في حين يرى 27 بالمئة أنها سلبية لدرجة متوسطة.
إن الإحباط القائم إزاء التعليم يرتبط بدرجة كبيرة بالاقتصاد ككل، بما أن تونس أخفقت في إحراز تقدم اقتصادي على مدار عشر سنوات تقريباً. من ثم، لا يمكن التصدي للأزمة التعليمية عبر إصلاح المنظومة التعليمية فقط. على ذلك، فالقطاع التعليمي يواجه عدة تحديات حالياً، منها بالأساس عدم قدرة وزارة التعليم على الوفاء باحتياجات تطوير القطاع التعليمي بسبب القصور الكبير في الاستثمار في التعليم. كما أن الاضطرابات المتصلة بفيروس كورونا لن يقتصر أثرها على المدى القريب، إنما ستكون لها أيضاً تداعيات على المدى البعيد بالنسبة للفئات المتضررة ويرجح أن تفاقم من أوجه اللامساواة القائمة، وعلى صناع القرار في تونس تطوير استراتيجية للتعامل مع هذا العجز التعليمي.