إنّ المقاربة التشاركيّة البنّاءة هي أجدى السبل التي تتجاوز هنات محاولات الإصلاح السابقة وتخرجها من إطار المقاربات الرسمية الفوقية وعدم توفّقها في تحسّس ما تعانيه المنظومة التعليميّة العموميّة في تونس بما فيها منظومة التعليم العالي والبحث العلمي من مشاكل.
وقد مثّل انهيار النظام السّابق في 14 جانفي 2011 وما تلاه من مناخ سياسي وثقافي ومجتمعي جديد رفعت فيه شعارات الديموقراطيّة والتشاركيّة فرصة مناسبة لمحاولات القطع مع آليات التعامل القديمة في علاقة بكلّ الملفّات الوطنيّة ومن ضمنها ملفّ التّربية والتّعليم ومنظومته العموميّة في مختلف مراحلها ومن بينها طبعا مرحلة التعليم العالي والبحث العلمي ومشاكلها العويصة المتعدّدة غير أنه لا يمكننا إغفال أنّ محاولات إخراج الشأن الجامعي من إطاره المألوف والمحدود قد بدأت قبل سنة 2011 وتحديدا منذ منتصف العشريّة الأولى من هذا القرن ولغايات اقتصاديّة وسياسيّة معلومة حين أقرّت السلطة مبدأ فتح المجالس العلميّة ومجالس الجامعات لممثلين عن المحيط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وإمضاء اتفاقيّة شراكة مع اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة “تفتح الباب للبناء المشترك للإجازات التطبيقيّة وإمكانيّة مساهمة المهنيين في التكوين” وهو للمفارقة العجيبة توجّه يزعم الانفتاح على المحيط والتوجه نحو التشاركيّة وفسح المجال أمام الحوار المجتمعي حول معضلات التعليم العالي إلا أنه كان قرارا أحاديّا فرضته السلطة السياسيّة وتمادت فيه رغم اعتراض أهمّ الشركاء الاجتماعيين ونعني بذلك الطرف النقابي حيث عبّرت الجامعة العامة للتعليم العالي آنذاك “عن رفضها لهذا التوجه واحترازاتها تجاهه خاصة بالنسبة إلى المخاطر والانزلاقات التي يمكن أن تقع فيها مثل هذه المقاربات” (نزار بن صالح / جريدة المغرب 31 ماي 2021).
غير أنّ أبرز ما يمكن وضعه تحت خانة “الحوار المجتمعي” هو ذاك الحوار الذي أطلقته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تحت عنوان “الحوار المجتمعي حول إصلاح منظومة التعليم العالي” الذي أعلن عن انطلاقه رسميّا يوم 16 جوان 2015 بصفة موازية تقريبا لـ “الحوار الوطني حول إصلاح المنظومة التربويّة” الذي انطلق قبل ذلك بحوالي شهرين بين وزارة التربية والاتحاد العام التونسي للشغل والمعهد العربي لحقوق الإنسان ممثلا لشبكة من جمعيات المجتمع المدني هي شبكة “عهد” بما يعنيه ذلك من نظرة تجزيئيّة اعتباطيّة للمسألة التعليميّة والتربويّة تفصل بين مكوّنات المنظومة المختلفة وقد جمع هذا الحوار أساتذة جامعيين وخبراء في الشأن البحثي الجامعي ورؤساء جامعات وممثلين عن الطرف النقابي والجمعيات ومؤسسات القطاع الخاص والطّلبة وغايته الأساسيّة حسب ما ورد في كلمة وزير التعليم العالي الافتتاحيّة “الأخذ برأي أكبر عدد ممكن من المهتمين بالشأن التربويّ والجامعي في الجهات بما يساهم في إعداد برنامج إصلاحيّ شامل يراعي مصلحة الطالب ويساهم في تطوير مستوى التعليم وجودته وتحسين تشغيلية خرّيجيه في إطار خدمات جامعيّة متطوّرة كما يهدف إلى تثمين أحسن البحوث ونتائجها لدى الفاعلين في المحيط الاجتماعي والاقتصادي وضمان حوكمة أجود لترشيد التصرف في الموارد”.
ولئن يعتبر إرساء مبدأ الحوار الاجتماعي حول ملفّ التعليم العالي والبحث العلمي شأنه في ذلك شأن بقيّة الملفات التربويّة والمجتمعيّة مكسبا يجب تثمينه والحفاظ عليه وترسيخه نهجا في التعاطي مع كلّ القضايا الوطنيّة فالمطلوب اليوم تطويره وتوسيع آفاقه وتقنينه صلب وظائف المجلس الأعلى للتربية لتفادي تشتت الأطر الحواريّة السابقة وضعف مخرجاتها وتعثّر خطواتها المابعديّة وتكفي الإشارة هنا إلى أن ما تمخّض عن هذا الحوار من (مخطط إصلاحي للتعليم العالي والبحث العلمي 2015 / 2025 ) لم ينجح إلى حدّ الآن في تحقيق نتائج ميدانيّة ملموسة من شأنها الإسهام وإن جزئيا في تطوير هذه المنظومة وإحداث النقلة النوعية المرجوّة منها رغم مشارفة هذا المخطط على نهاية مدّته المحدّدة لتكريس أهدافه المعلنة.