أضحت كلمة الرّقمنة أكثر المصطلحات شيوعا خاصة بعد التحوّلات المتسارعة التي أفرزتها الثورة التكنولوجيّة والاتصاليّة منذ منتصف القرن المنصرم والتي ارتفعت وتيرتها خلال ما انصرم من سنوات هذه الألفيّة الثّالثة لتضحي فعلا قطب الرحى في مختلف مجالات الحياة وفي شتى والتوجهات السياسات الرسميّة وغير الرسميّة على امتداد العالم بعد جائحة الكوفيد 19 وما أحدثته من زلزال رهيب صحّيّا واقتصاديّا واجتماعيّا وعلى وجه الخصوص تربويّا. فأيّ حاجة للتعليم العالي بالرقمنة؟ وما هي أوجه الاستفادة منها في تطوير التعليم بل تحويله؟
ضبطت قمّة الأمم المتحدة لتحويل التعليم المنعقدة بنيويورك خلال أيام 16 و 17 و19 سبتمبر 2022 عدّة مسارات عمليّة انبنت عليها خطّتها لتحويل التّعليم رابعها مسار التعلّم الرّقمي الذي كشفت الكورونا مدى الحاجة إليه سواء زمن الجوائح والكوارث والحروب أو حتى خلال فترات التعليم والتعلم العاديّة لما أظهرته عمليّة تسخير التّقنيات الرقميّة في التعليم من قدرات فعليّة على ضمان استمراريّته وديمومته وجودته وسهولة النّفاذ إليه إلى جانب رفعها الغطاء عن الفجوة الرهيبة القائمة على النطاق العالمي بين الدول الفقيرة والمتوسّطة من ناحية والدول الغنيّة المتقدّمة من ناحية أخرى بما يشي بخطر مزيد توسّع هذا الخرق بنسق أكثر ارتفاعا لن يؤدّي في النهاية إلا إلى حرمان ملايين المتعلمات والمتعلّمين من حقّهم الانساني الكونيّ في التعلّم الجيّد والمنصف والمتاح للجميع مدى الحياة وإلى تهاوي المنظومات التربويّة التقليديّة والنّمطيّة وما يعنيه ذلك من ترسيخ تبعيّتها الحضاريّة والعلميّة والتكنولوجيّة وديمومة استعمارها السياسيّ والفكريّ والثّقافي ما يطرح على هذه الدول ومن بينها تونس تحدّيا حقيقيّا هو العمل على تجاوز المفهوم الرائج حول “إصلاح التعليم القائم” إلى مفهوم جديد أعمق وأجدى وهو “تحويل التعليم” إلى تعليم جديد ذي مواصفات مختلفة لعلّ من أهمّ خصائصه رقمنته وسائط ومضامين وبنية تحتية تيسيرا لعملية التواصل معه والنفاذ إليه حتى يضحي رافعة حقيقيّة من رافعات التنمية الشاملة والمستدامة وهو ما يتطلّب جملة من الإجراءات أهمّها:
- وجود رؤية استراتيجيّة واضحة الغايات دقيقة الأهداف والمسارات حتى لا تتحوّل الرقمنة إلى مجرّد درجة (موضة) وبهرجة لتزويق بعض السياسات أو مدخلا لخدمة بعض أباطرة سوق الأجهزة الرقميّة وموادّها مع ربط هذه الرؤية بالاحتياجات الحقيقية والتوجهات التكنولوجية والرقميّة المستقبليّة.
- رصد ما تتطلبه عمليّة الرقمنة من موارد ماليّة إضافيّة تتجاوز وضع التعليم العمومي الراهن (ميزانية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تساوي 0,29 % من الناتج المحلي الداخلي و 3,81 % من ميزانيّة الدّولة) والبحث عن مصادر لها لعلّ صندوق تمويل التعليم الذي تم إقراره صلب قانون الميزانية العمومية لسنة 2024 أحدها.
- توفير بنية تحتية رقميّة جاهزة من شبكات انترنيت مجانية ومؤهلة وأجهزة وبرمجيّات يتم تحديثها وتعهدها دوريا تناسبا مع متغيرات الواقع العلمي والتكنولوجي والرقمي.
- تعهّد الموارد البشريّة المشرفة على عمليّة الرّقمنة وتطوير كفاءاتها لرفع مستوى معارفها ومهاراتها التقنية اللازمة.
- التكيّف مع الدّور الجديد للمدرّس الذي لم يعد مصدر المعرفة ومالكها الوحيد بل أضحى الميسّر لعمليّة الولوج إليها والموجّه نحو كيفيّة استغلالها وحسن توظيفها في العمليّة التعليميّة.
- وضع مقاربات تربويّة وبيداغوجيّة جديدة تتلاءم مع بيئة المتعلم الحالية والمستقبليّة وتنتقل به من طور تلقّي المعرفة إلى طور انتاجها والابتكار فيها وهو ما يجعل التعليم وخاصة في طوره العالي منفذا يسيرا إلى عالم البحث العلمي والتكنولوجي الشاسع.