تعدّ حرّيّة التّنقّل حقّا دستوريّا لا جدال فيه شأنها في ذلك شأن حريّة اختيار نوع العمل ومكانه غير أنّ لممارسة هذا الحقّ استتباعات لا بدّ من معالجتها والبحث فيها بما يضمن التوازن بين ممارسة هذا الحقّ الفرديّ واحتياجات المجموعة الوطنيّة وواجب هذا الفرد تجاهها إذ أضحت هجرة الكفاءات والقدرات البشريّة الوطنيّة ملفّا مؤرّقا خاصّة في السنوات الأخيرة التي شهدت ارتفاعا غير مسبوق لهذه الظاهرة أفرز جملة من التداعيات الخطيرة سواء على مستوى الاقتصاد الوطنيّ باعتباره قطاعا يتوقّف عليه وعلى مردوديّته مصير أغلب القطاعات المهنيّة والانتاجيّة الأخرى أو خصوصا على مصيره هو ذاته.
فقد فاقمت الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي عرفتها تونس بعد سنة 2011 وخاصة بعد جائحة كورونا من هذه الظاهرة ما نبّه عديد الباحثين والمتخصّصين إلى ما تمثّله من هدر لموارد الدّولة الماليّة ولثروتها البشريّة إذ ارتفعت نسبة الكفاءات التونسيّة التي هاجرت خارج حدود الوطن عن طريق الوكالة التّونسيّة للتعاون الفنّي خلال سنة 2022 بنسبة بلغت 41 % مقارنة بسنة 2021 لتبلغ نحو 3500 منتدبا منهم 1250 من الأطبّاء والإطار شبه الطبّي و 862 من قطاعات التربية والتّعليم و 562 من قطاع الهندسة و280 في مجال الإعلاميّة فيما قفز عدد المنتدبين عن طريق التعاون الفني خلال سنة 2023 إلى أكثر من 22 ألفا من بينهم ما يزيد عن 1200 طبيبا أغلبهم من ذوي الاختصاص في أمراض القلب ومن الأساتذة الجامعيين الاستشفائيّين ليبلغ مجموعهم أكثر من 3000 طبيب إلى حدّ الساعة. كما أكّد المعهد الوطني للإحصاء أن معدّل عدد المهندسين الذين استهوتهم الهجرة يفوق 6500 مهندسا سنويّا تستقطب البلدان الأوروبيّة وحدها حوالي 2500 منهم في حين بلغت نسبة الأساتذة الجامعييّن الذين اختاروا الهجرة حوالي 18% من عددهم الجملي أما معدّل عدد أصحاب الشهائد العليا المختلفة فيتراوح سنويّا بين 55 ألفا و 60 ألفا سنويّا.
ولعلّ أهمّ الأسباب الكامنة وراء ذلك:
- غلق باب الانتداب في الوظيفة العموميّة والقطاع العام واستشراء أشكال التشغيل الهشة.
- تدنّي مستوى الأجور المسداة إلى هذه الإطارات العليا.
- سوء توزيع خارطة مواطن العمل والمنشآت والمرافق العموميّة على المستوى الوطني مع غياب التشجعيات المحفزة على العمل بالجهات الداخليّة أو على بعث المشاريع الخاصة.
- غياب مراكز البحث العلمي وتجهيزاته بالنسبة إلى الكفاءات الراغبة في تطوير قدراتها ومكتسباتها أو المهتمة بالبحوث والاختراعات وغيرها.
وإذا علمنا أن الأغلبية الساحقة من هذه الكفاءات هي من ذوي الخبرة في مجالاتها وخاصة الأساتذة الجامعيين حاملي شهادات الدكتوراه ومؤطّري البحوث والدراسات والمشرفين على مراكزها تبيّنت لنا الانعكاسات الوخيمة لهذه الظاهرة على التعليم العالي لافتقاده خيرة كفاءاته ولمردوديتهم المتميزة وخاصة لانعكاس ذلك على مستوى تحصيل طلبتهم وتكوينهم العلمي والمعرفي سواء في ما يخصّ سنوات التحصيل الأولى أو في مجال بحوثهم ودراساتهم المختصة وقد افتقد كثير منهم الإطار المشرف عليها أو تعطّلت مسيرتهم البحثية نتيجة هجرة من كانوا يشرفون عليها سابقا ونخصّ بالذكر منها شهائد الدكتوراه وهو بطبيعة الحال عائق إضافي يقلل عدد الحاصلين عليها ممن تحتاجهم الجامعة التونسيّة سواء لسدّ الفراغ الذي تركه هؤلاء بعد هجرتهم أو لرفع نسبة الدكاترة ضمن إطار التدريس الجامعي.
أما إذا نظرنا إلى تلك الهجرة السابقة للكفاءات المتميزة المتخرّجة من المعاهد النموذجية التي تمر مباشرة لمواصلة دراستها بالخارج التي كلّفت المجموعة الوطنيّة موارد مالية طائلة لن يعود نفعها على الوطن الذي
سيعاني كذلك من تعطل مشاريعه التنموّية وتلك المتعلقة بالتجهيزات والبنى التحتية وإدارة المؤسسات الانتاجيّة والإشراف على دواليبها فإن هذه الظاهرة تضحي من أهمّ العوامل المساهمة في تأخّر التطور الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي الذي ترزح تحت نيره بلدنا كحال أغلب الدول المتخلفة ما يعمّق الفجوة الحضاريّة القائمة بينها والدول المتقدّمة والمهيمنة ويؤبّد تبعيّتها لها وارتهان قرارها الوطني السيادي لخياراتها وإملاءاتها في مجال المجالات الأخرى المتعلّقة ليس فقط بالجوانب الاقتصادية والمالية والسياسية بل على الأخص ما ارتبط منها بالجوانب الفكرية والثقافية وتأثير ذلك في أنموذج المواطن التونسي المستقبلي.
فكيف السبيل إلى وضع خطط وضبط آليات للحدّ من هذه الظاهرة من خلال معالجة أسبابها وطرح بدائل يمكنها أن تحفّز كفاءاتنا وقدراتنا العلميّة على الاستقرار والإسهام في التنمية الوطنيّة الشاملة والمستدامة؟