لعلّ من أخطر الآثار المترتبة عن الإصلاح التربوي 1991 ما لحق بالتعليم التقني من تهميش انتهى إلى إلغاء مسلك كامل من مسالك النظام التعليمي التونسي وكرّس الدخول الفعلي في نفق ضرب المرفق التربوي العمومي إذ جاء هذا الإصلاح في ظل تنفيذ مقتضيات ما سمي بـ “برنامج الإصلاح الهيكلي” الذي انطلق نهاية سنة 1986 وبدأ بالشروع في التفويت في المؤسسات الصناعية والاقتصادية المنتجة المملوكة من طرف الدولة ثم امتد ليطال المرافق الخدماتية العمومية من نقل وسكن وصحة وتعليم في ظل تهاوي المنظومة الاقتصادية الاشتراكية وفسح المجال لهيمنة متوحشة للنظام الرأسمالي المنفلت من كل عقال الذي عمل على تشكيل توزيع عالمي جديد للعمل من أجل ربط أغلب اقتصاديات دول العالم بلوبيات المال والأعمال العملاقة وبالشركات العابرة للحدود والقوميات وتحويلها من دول وأمم ساعية نحو امتلاك التكنولوجيا الحديثة المتطورة إلى مجرد سوق استهلاكية وخدماتية تقف عند حدود ترويج المنتوجات المستوردة من بلدان المورد واستهلاكها وهو ما اقتضى ضرورة الاستغناء عن التعليم التقني تحت ذريعة تخفيف أعباء الدولة ورفع يدها عن كل ضروب الانتاج أو المنافسة بينها وشتى قوى الانتاج الرأسمالي الحرّ وإرساء قوانين السوق وسلعنة كل الخدمات المقدمة للمواطنات والمواطنين.
ومن الطبيعي أن ينعكس هذا الأمر على التعليم الجامعي الذي شهد انخراما كبيرا بين أعداد مهولة من الطلبة ذوي الاختصاصات الانسانية والاجتماعية والدراسات النظرية البحتة التي تحوّلت إلى بؤرة لإنتاج البطالة المستشرية وقلّة من ذوي الاختصاصات التقنية البحتة خاصة مع ضعف نسبة الحاصلين على الباكلوريا من شعبة التقنية والتقلص المريع في عدد الملتحقين بشعبة الرياضيات في التعليم الثانوي ليتظافر ذلك مع إعادة هيكلة التعليم العالي واعتماد نظام إمد بشعبه القصيرة التي لم تؤد إلا إلى تخرّج أعداد من ذوي التكوين المحدود الذين عوضوا خريجي التعليم التقني والمهني سابقا باعتبارهم يدا عاملة متوسطة الكفاءات منخفضة كلفة التأجير لم تجد أعداد كبيرة منهم فرصتها في المؤسسات الصناعية والتقنية لهيمنة اقتصاد الخدمات من ناحية وعجز هذه المؤسسات التي تمثل أغلبها الساحقة مؤسسات صغيرة أو متوسطة عاجزة على تأطير مواردها البشرية دون التغافل طبعا عن هيمنة الاقتصاد الموازي على دواليب الاقتصاد الوطني ومسالكه وعدم تناسب شهائدهم العلمية واختصاصاتهم المهنية مع متطلبات الاقتصاد الوطني وتغيّر المهن المتسارع وبروز أنماط جديدة من الاختصاصات.
ومن هنا أضحى لزاما إعادة الحياة إلى التعليم التقني المهني في التعليم الثانوي وخلق مسارات له في التعليم العالي رغم ما سيتطلبه ذلك من إمكانيات تمويل مرتفعة تفرض على الدولة البحث عن مصادر تمويل جديدة ومبتكرة سبق أن اقترح الائتلاف التربوي التونسي عددا من البدائل الممكنة منها ضمن مخرجات منتداه الأول ومخرجاته وهو ما سيؤدي على المدى المتوسط إلى تنويع المسالك التعليمية وإلى إعادة انتاج طاقات خلاقة قادرة على الاندماج في سوق الشغل المتحرك ومهنه المتجددة من ناحية وإلى التقليص التدريجي من منسوب البطالة حتى يستعيد المرفق الجامعي وظيفته الاجتماعية ويسهم في تنشيط الدورة الاقتصادية ومراكمة الثروة سبيلا أوحد على المدى المستقبلي كفيل بإنهاء التبعية الخارجية وتحرير القرار الوطني من كل القيود المفروضة عليه من مراكز القرار الأجنبي ولوبياتها المالية المهيمنة.