
تحتل العودة المدرسيّة مكانة متميّزة لدى كلّ الأسر التّونسيّة دون استثناء نظرا لما يمثّله التّعليم في ثقافتها المتوارثة من رمزيّة أهّلته لأن يكون بلا منازع أهمّ مشغل من مشاغلها الحياتية مهما كان موقعها الاجتماعي أو ظروفها الاقتصاديّة أو مستوى أفرادها المعرفيّ ما جعل من كلّ عودة إلى مقاعد الدّراسة مناسبة يتطلّع إليها الجميع علّها تجسّد الانطلاقة المرجوّة نحو آفاق تربويّة أرحب تتفادى النّقائص الموجودة وتتقدّم خطوات إضافيّة صوب تحقيق الهدف المأمول “تعليم عموميّ مجانيّ جيّد ومتاح للجميع مدى الحياة”.
وإذ يحي الائتلاف التّربويّ التّونسيّ هذه المناسبة بما يليق بها من اعتبار فإنّه يستغلّها ليتوجّه إلى كافّة الأسرة التّربويّة مدرّسات ومدرّسين وأولياء أمور وإطار إشراف إداريّ وبيداغوجي ومنظّمات مجتمع مدني تربويّ بأسمى عبارات الإجلال والتّقدير لما يبذلونه سنويّا من مجهودات وما يقدمون عليه من تضحيات في سبيل إنجاح المسار الدّراسيّ لأكثر من مليونين ونصف من بنات تونس وأبنائها التلاميذ وفي خدمة منظومتنا التربويّة العموميّة التي يجب أن تظل دوما “لكلّ فيها حق” رغم ما يعتري الواقع الرّاهن من مظاهر أزمة ما فتئت تزداد استفحالا لتهدّد بصورة جدّيّة مستقبل عشرات آلاف التلاميذ في مختلف مراحل الدّراسة بعد أن أضحت عائلاتها عاجزة فعليّا عن توفير متطلّبات تعليمها لارتفاع تكاليفه المتصاعد ولمحدوديّة تدخّل الدولة سواء لكبح جماح انفلات أسعار الموادّ المدرسيّة الجنونيّ وكلفة عمليّة التمدرس الباهظة أو للإحاطة المثلى بالأسر والفئات التي تحتاج إلى مدّ يد المساعدة الاجتماعيّة إليها لتجابه بها احتياجات منظوراتها ومنظوريها وخاصّة مواصلة الحكومات المتعاقبة انتهاج نفس السياسات التي تستهدف شتى المرافق العموميّة وفي مقدّمتها مرفق التّعليم الذي ساءت أوضاعه وأحوال طالبيه أو العاملين به وتردّت بنى مؤسساته التّحتيّة وافتقد أغلب التجهيزات ووسائل العمل الضّروريّة نظرا لشحّ الميزانيات التقشّفيّة المرصودة إليه التي أضحى معها الحديث عن مجانيّة التّعليم وإتاحته لجميع مستحقّاته ومستحقّيه على قدم المساواة وعلى قاعدة الانصاف وتكافؤ الفرص حديثا يحتاج إلى كثير من الاستدراك والتّصويب والتّعديل.
ولئن كانت سلعنة التّعليم وضرب مجانيته معضلة منظومتنا العموميّة الكبرى إلاّ أنها ليست معضلتها الوحيدة فقد استتبع هذا التوجّه نحو السلعنة تضاؤل اهتمام الدّولة بتطوير هذا المرفق في مختلف جوانبه إدارة وحوكمة ومناخا وبرامج ومناهج وآفاقا ما جعل مصطلح الإصلاح التّربويّ أكثر المصطلحات شيوعا منذ أكثر من عقدين من الزّمن خاصّة بعد أن تبيّن للجميع فشل ما أتى به القانون التوجيهي لسنة 2002 من “إصلاحات” كارثية لكن هذا الوعي بضرورة الإصلاح لم يمنع لدواع عدّة تعثّر هذا الملفّ واستعصائه على الإنجاز لتكون هذه العودة المدرسيّة فرصة متجدّدة للتأكيد على حتميّة الشّروع الفعليّ والعاجل في عمليّة إصلاح تربويّ شامل ومعمّق على قاعدة برنامج وطنيّ يكرّس فعليّا عموميّة التّعليم ومجانيته وديموقراطيّته وتقدّميّته ووحدته على أن تتمّ هذه العمليّة الإصلاحيّة المرجوّة ضمن إطار تشاركيّ واسع تكون فيه لمنظّمات المجتمع المدنيّ التّربويّ إلى جانب بقيّة الأطراف والفعاليات ذات العلاقة بالشأن التربويّ العام أدوار فعليّة ومشاركة عمليّة تكرّس طبيعة هذا الملف الوطنيّ الشّامل الذي لا يجب احتكاره من طرف أيّ سلطة تنفيذيّة أو أي جهة أخرى مهما كانت طبيعتها وهو ما يستدعي ضرورة أن يكون المجلس الأعلى للتّربية الإطار الوحيد والأمثل لهذا الإصلاح شريطة إكسابه الصبغة التقريريّة وتوسيع دائرة تركيبته وتنويعها وهي تركيبة ظلّت تكرّس إلى حدّ هذه اللحظة استحواذ السلطة التنفيذيّة على مقاليد هذا المجلس مع اقتصار دوره على الطّابع الاستشاري البحت بما يقلّص كثيرا من فاعليته وجدواه.
إن تأكيد الائتلاف التّربويّ التّونسيّ على أن يكون طابع عملية الإصلاح طابعا تشاركيّا مردّه الأساسيّ إيمانه بأنّها عمليّة معقّدة ذات بعد استراتيجي يجب أن يقطع مع كل سمات الظرفيّة والارتجاليّة وهو ما يستدعي ضرورة تنوّع المقاربات وتعدّد زوايا النّظر وتكاتف الجهود الميدانيّة العمليّة التي يرى الائتلاف جدارته بالمساهمة الفعليّة والفعّالة فيها عبر شتى مكوّناته من جمعيّات مدنيّة ونواد جامعيّة وخبراء تربويين وبيداغوجيّين ويعرب عن استعداده المبدئي غير المشروط لإنجاح مساراته وتثبيته منجزا حضاريا في خدمة منظومتنا التربويّة وأجيال هذا الوطن ومقدّراته البشريّة والعلميّة والمعرفيّة الواسعة.
كما يؤكّد الائتلاف التّربويّ التّونسيّ من جهة أخرى على أهمّيّة ملفّين من أخطر الملفّات التّربويّة المطروحة وراهنيّتهما وهما ملفّا الدّمج المدرسيّ والتعليم الرّقمي ما يشكّل منهما محورين من أبرز المحاور التي يجب مزيد الاهتمام بهما إذ رغم تبنّي الدّولة التّونسيّة مقاربة الدّمج المدرسيّ منذ مدّة طويلة نسبيّا واتّخاذها جملة من الخطوات المتقدّمة في هذا المجال إيمانا منها بحقّ كلّ أطفال الوطن وفئاته في التعليم وإتاحة فرص النّفاذ إليه مهما كانت وضعيّاتهم وخاصّة أولئك الذين يعانون من الإعاقة وتأثيراتها الاجتماعيّة والتّربويّة والنّفسيّة حيث جاء القانون التوجيهي للتربية والتعليم منصّصا على تكريس مظاهر الانصاف وداعما تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص ومثبتا حقّ الأطفال من ذوي الاحتياجات الخصوصيّة في توفّر الظروف الملائمة للتمتع بالتربية والتعليم وتأهيلهم للاعتماد على النفس وتيسير مشاركتهم الفعليّة واندماجهم في المجتمع مع إفراد ذوات الإعاقة وذويها ببرنامج وطنيّ خاص والعمل على إدماجهم على أوسع نطاق ممكن غير أن ما تمّ تحقيقه فعليّا كان أبعد ما يكون عن تحقيق الغايات المنشودة من هذا المجهود التشريعي والقانونيّ وهو ما يدعو كما عبر عن ذلك الائتلاف التربويّ التونسيّ في كثير من ندواته وأدبياته عن دعوته لضرورة مراجعة السياسات والممارسات التعليمية القائمة نحو رؤية دامجة تنطلق من مراعاة تنوع الحاجات وتستند إلى مبدأ ضمان تعليم جيّد ومنصف وشامل للجميع وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة وهو جوهر الهدف الرابع من أهداف خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة.
أما عن ملفّ رقمنة التّعليم فقد أضحى تعصير هذا المرفق مدخلا أساسيّا لتطويره ولعلّ رقمنته أولى مظاهر دخوله العصر بل لعلّها الشرط الأساسيّ لذلك سواء عبر تيسير مواكبته للثورة العلميّة والتكنولوجيّة الهائلة التي شهدها الربع الأول من هذا القرن أو من خلال تيسير النفاذ إلى المعرفة وتعدّد الوسائط والطرق والأساليب التي تمكّن طالبها من ذلك وهو ما سيؤدّي بالضرورة ليس إلى مجرّد عمليّة إصلاح للمنظومة التربويّة بل سيحقّق عمليّة تحويلها كلّيّا حتى تستجيب إلى متطلّبات التعليم المنشود وإتاحته للجميع شريطة أن تقوم الدولة بمجهود تمويلي هائل ورصد أقصى ما يمكن من ميزانيات تتطلبها عمليّة الرقمنة مع العمل على مجابهة النزعة المحافظة لدى أغلب المهتمين بالشأن التربوي ومحاولة تأهيلهم لتجاوز العراقيل المعرفية والنفسية التي تحول بينهم والقبول بالرّقمنة الكاملة لمختلف مفاصل العملية التعليميّة.
إنّ واقع منظومتنا التربويّة العموميّة بما فيه من نقائص ومظاهر قصور أو تقصير لا يجب أن تكون مدعاة للإحباط أو التسليم بالأمر الواقع بل لا بدّ أن تكون على عكس ذلك تماما حافزا قويّا وأساسيّا يدفع جميع مكوّنات الشعب التونسيّ إلى مواصلة الإيمان بدور التعليم في النهوض بالمجتمعات وتحقيق انعتاق الأفراد والجماعات من بوتقة الجهل والفقر والتخلّف ولعلّ مهمّة منظّمات المجتمع المدني التربويّة بالغة الأثر في هذا المجال فلتكن هذه السنة الدراسيّة التي نقف على عتبة انطلاقها محطّة مفصليّة في هذا الاتجاه.
لتحميل البيان: