لا شكّ في أنّ البحث العلميّ ومدى تطوّره وتطوّر الاهتمام به يعدّ من أبرز المعايير التي يمكن الاستناد إليها في أي عمليّة تقييم لمنظومة التعليم العالي إذ به تتحدّد جودة مخرجات هذه المنظومة وقيس نسبة انخراطها في مجالات التميّز وفي تطوير القدرات والمكتسبات والانخراط في عالم المعرفة الكونيّ ولئن تشكو منظومة التعليم العالي في تونس من نقائص عدّة أسهمت بدرجات متفاوتة في تراجع مستوى مخرجاتها سواء من ناحية التكوين أو من ناحية تطوّر المهارات والقدرات ومدى تناسبها مع متطلّبات الدورة الاقتصاديّة الوطنيّة أو قدرة هذه الدورة ذاتها على استيعابها فإنّ ما تحظى به هذه الموارد البشريّة المتخرّجة في مختلف الاختصاصات سواء على المستوى الإقليمي عربيا وإفريقيا أو على مستوى الفضاء الأوروبي أو حتى في شمال القارة الأمريكيّة من إقبال على الاستفادة منها ومن خبراتها ومردوديّتها دليل على أن جامعتنا التونسيّة ما زالت على قدر من الجودة يخوّل لخرّيجاتها وخرّيجيها المراهنة على افتكاك موقع لهم في هذه البلدان التي يعتبر عدد غير قليل منها في مصف الدول المتقدّمة على مستوى إشعاعها العلمي والتكنولوجي والمعرفي وجودة منظوماتها التربويّة ولعلّ أبرز ما يؤكّد ذلك تصنيف منظومة البحث العلمي في تونس التي وضعها التصنيف العالمي Global Index Innovation في المرتبة 12 من مجموع 132 دولة والمرتبة 5 عالميا من حيث خريجي التكوين العلمي والهندسة في علاقة بعدد السكان والموارد المالية المخصصة وتحوّزها على المرتبة الأولى عربيا في عدد الباحثات الإناث (2022) دون تناسي أنّ 18 % من الأساتذة الجامعيين التونسيين يدرّسون خارج حدود الوطن.
ورغم إصدار القانون التوجيهي للبحث للبحث العلمي منذ سنة 1996 الذي هيكل مختلف مكوّنات البحث العلمي حيث تمّ بعث إدارة عامّة للبحث العلمي تحتوي على أربعة أقسام هي: هياكل البحث/ مدارس الدكتوراه/ البرامج الوطنيّة/ البرامج الدوليّة والشراكات بالإضافة إلى هياكل دعم وتنسيق أهمها الوكالة الوطنية للنهوض بأنشطة البحث والهيئة الوطنية لتقييم أنشطة البحث والمركز الوطني الجامعي للتوثيق العلمي والتقني ومركز الحساب الخوارزمي ومدينة العلوم بتونس ما أدى إلى تنظيم البحث على مستوى كلّ الوزارات المعنيّة وعدم اقتصاره على وزارة التعليم العالي فحسب (مثلا: الصحة 13%/ الفلاحة والموارد المائية 14%) وكذلك وضع برنامج تحديد الأولويات الوطنيّة للبحث العلمي (2016) وبلوغ عدد مؤسسات البحث أكثر من 430 مخبرا و13 قطبا تكنولوجيّا و13 جامعة تعدّ 270 ألف طالبة وطالب و12 ألف أستاذ و22 ألف باحث و10 آلاف طالب دكتوراه
إلاّ أن ذلك لا يمكنه أن يمثّل الشجرة التي تخفي الغابة حيث يعاني التعليم العالي والبحث العلمي معضلات عدّة أهمّها:
- التخفيض المتواصل في الميزانيات المرصودة لفائدة الوزارة ( مثال تخفيض 20% سنة 2021).
- ضآلة حجم ميزانيّة الوزارة التي لم تتجاوز 2277,238د لسنة 2024 أي ما نسبته 3,81% من ميزانيّة الدولة و 1,41 % من الناتج الوطني الخام ويرصد للبحث العلمي ما نسبته 0,29 % من الناتج الوطني الخام فقط وهو ما يمثّل 80 % من الميزانية الجملية المخصصة له فيما يتقاسم النسبة الباقية قطاعات الصناعة والخدمات والشركات (15%) والشراكات الدولية (5%).
- غياب استراتيجية وطنيّة واضحة.
- انعدام الترابط بين البحث العلمي ومتطلبات الدولة الاقتصادية والاجتماعية.
- ارتباط البحث العلمي بمواضيع يفرضها التعاون الخارجي.
- عدم استثمار في البحث العلمي في القطاع العام وخاصة في النسيج الاقتصادي الوطني (95% من المؤسسات صغيرة أو متوسطة).
- غياب مخابر تستجيب لمتطلبات البحث العلمي ومواصفاته وسلامة الباحثين وحقوقهم المادية.
- عدم إدراج شهادة الدكتوراه في السلم الوظيفي للوظيفة العمومية والقطاع العام.
- استغلال الدكاترة المعطلين عبر عقود عمل وقتية سنويّة وبأجور زهيدة والاعتماد على باحثين وقتيين دون انتداب لغياب الميزانية المخصصة لذلك.
- فقدان شهادة الدكتوراه أهميتها واقتصارها على ملفات الترقية أو الانتداب أو الاتفاقيات الدولية للحصول على تمويلات وبرامج تعاون.
- اللجوء إلى البحث العلمي لمجرّد سدّ الفراغ الوقتي بالنسبة إلى المعطلين عن العمل من حاملي الشهادات الجامعيّة العليا.
وتبقى أهم الحلول التي يتوجب اعتمادها من أجل تطوير البحث العلمي:
- ضبط استراتيجية وطنية شاملة لكل الوزارات ذات العلاقة (التعليم العالي/ الصحة/ الفلاحة/ الصناعة…..).
- تطوير الميزانية والبحث عن موارد إضافية لها (تفعيل الصندوق الوطني لتمويل التعليم الذي تم إدراجه صلب قانون المالية 2024).
- ربط المخابر والجامعات بمؤسسات الدولة وبمحيطها الجغرافي بما يوثق صلتها بالاحتياجات الوطنية الحقيقية تطويرا للاقتصاد الوطني وربطه بالاستثمار ومتطلباته.
- تحسين المخابر الموجودة وتطوير تجهيزاتها ومرافقها.
- تطوير القوانين والتشريعات الراهنة بما يخلق حوافز إضافيّة لللإقبال على البحث العلمي.
- تثمين شهادة الدكتوراه وإدراجها صلب السلم الوظيفي وتطوير آليتي الانتداب والترقية.