يمثّل التعليم العالي الحلقة الثالثة من حلقات التعليم ومراحله حيث يمرّ الطفل من مرحلة تلقّي أبجديّات المعرفة والتحصيل العلمي والتدرّب على قواعد العيش المشترك التي يمثلها التعليم الابتدائي فمرحلة التعليم الإعدادي وطابعها الموسوعي الشامل التي تعقبها المرحلة الثانويّة التي تمثّل حلقة وصل بين مرحلتين داعمة للتحصيل العلمي والمعرفي السابق ومهيئة إلى مرحلة التخصص اللاحقة باعتبارها إعدادا للتلميذ إلى مرحلة التخصص المعمق الذي يمثله التعليم العالي لتكون هذه المرحلة من هذا المنظور تتويجا لكل المراحل التعليمية المنصرمة تتكثف فيها المعارف التي تلقاها الطالب ويتعمّق استيعابه لها وإلمامه بكل دقائقها وخصائصها في المجال الذي اختار التوجه إليه أو فرضت عليه مؤهلاته والإكراهات المرتبطة بمنظومة التوجيه أن يتواجد به ويكون بالتالي على استعداد من ناحية المؤهلات والملكات المصقولة إلى الدخول صلب معترك الحياة العملية والتحول إلى فاعل اقتصادي ضمن الدورة الانتاجية الكبرى بما يعنيه ذلك من احتلال لمنزلة اجتماعية تتناسب مع دوره الذي سيقوم بتأديته لاحقا وحاجة المجموعة وشتى الأجهزة المؤسساتية والإنتاجية إليه ليكون التعليم في منتهاه رافعة اجتماعيّة أساسيّة يحتلّ التّعليم العالي ذروة هرمها وهو ما يفرض علينا التطرّق إلى نظام التوجيه باعتباره المحدّد الرئيسي في أحيان كثيرة لمستقبل الطالب وأفاقـــه المهنيّة والمجتمعيّة اللاحقة وقد مرت تونس بثلاث مراحل في هذا الخصوص يمكن تصنيفها كالتالي:
المرحلة الأولى: مرحلة بناء الدولة التي تم الاعتماد فيها على سياسة التخطيط حيث لم يمثّل التوجيه الجامعي مشكلة من المشاكل باعتبار حاجة الدولة إلى الكوادر التي ستقوم عليها مختلف مرافقها وقد انطلقت هذه المرحلة منذ ما قبل 1956 أي قبل تونسة الجامعة التونسية حيث كانت هناك مؤسسة جامعية عليا تم بعثها انطلاقا من سنة 1945 وهي معهد الدراسات العليا بالإضافة طبعا لعدد من الطلاب التونسيين الذين زاولوا تعليمعهم العالي بأوروبا وخاصة بفرنسا تحديدا حيث تولوا بمجرد تخرجهم أرقى المناصب صلب مؤسسات الدولة الرسمية وصلب أجهزتها العليا المختلفة لتتولى الجامعة التونسية التي تم بعثها سنة 1958 هذه المهمة لاحقا وتتكفل بتخريج الكفاءات والكوادر الذين بنوا الدولة الحديثة واحتلوا مكانة الكوادر الأجنبية التي كانت مهيمنة على المشهد وقد تواصلت هذه المرحلة إلي حدود النصف الثاني من عقد السبعينيات.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة السياسة الانتقائية التي فرضها التوجه نحو الاقتصاد الليبرالي وبداية التوجه التدريجي نحو تخفيف الضغط على ميزانية التعليم العالي ضمن ميزانية الدولة العامة لكن ذلك لم يحل دون أن يحافظ التعليم العالي على قيمته باعتباره مرقى اجتماعيا سمح بتكوين طبقة وسطى ذات امتيازات متعددة أهلت خريجات هذا التعليم وخريجيه إلى التواجد صلبها بكثافة معتبرة خاصة ضمن أطر الوظيفة العمومية وكوادرها المختلفة وقد تميّز التوجيه الجامعي حينها بالقدرة على مواءمته بين احتياجات الدولة من جهة وقدرات الطالب وتوجهاته وخياراته مع ظهور بوادر الاختلال في نهايتها التي تمثل بداية للمرحلة اللاحقة التي تتواصل إلى اليوم.
المرحلة الثالثة: هي المرحلة التي بدأت أساسا مع تنفيذ برنامج الإصلاح الهيكلي انطلاقا من نهاية سنة 1986 والتي تميزت بسمتين أساسيتين أولاهما جمهرة التعليم واتخاذ جملة من الإجراءات التي خففت الضغوط التي كانت مفروضة سابقا على شروط الالتحاق بالتعليم العالي (اعتماد احتساب نسبة الـ 25 ٪ من المعدل السنوي ضمن معدل الباكالوريا مع تعديل شروط الإسعاف التي مست حتى الحاصلات والحاصلين على معدل 07 من عشرين في هذا الامتحان) لينعكس ذلك على نظام التوجيه الجامعي المعتمد إذ أدّت إعادة هيكلة التعليم الثانوي من جهة حيث تمّ حذف بعض الشعب مع بعث شعب جديدة لا امتداد تخصصي لها في التعليم العالي على غرار شعبة الاقتصاد والتصرّف مثلا مع ارتفاع عدد الملتحقين بالتعليم العالي من جهة ثانية إلى ابتداع سيل من الشعب الجامعيّة التي لا يمكن إدراجها إلا في خانة البحث عن القدرة على استيعاب هذه الأعداد لا غير مع انتهاج ما يمكن تسميته بسياسة “طالب لكلّ مقعد” عوض “مقعد لكلّ طالب” ( سنة 2022 / 2023: 716 إجازة / إحصائيات وزارة التعليم العالي) وهو ما أدّى بدوره إلى توجيه أفواج من الطلبة نحو شعب لا تستجيب إلى مؤهلاتهم وطموحاتهم وقدراتهم بل يحدّدها فقط المعدّل الذي تمّ الحصول عليه في الامتحان الوطني بصورة رئيسيّة ليمثل ذلك عاملا إضافيا انعكس على جودة تكوينهم الأكاديمي والعملي دون التغافل عن إجراء آخر وهو اعتماد نظام “إمد” وإلغاء الاختبارات الشفوية من النظام التقييمي في التعليم العالي بما ساهم بصفة ملحوظة في تضخم أعداد الخريجات والخريجين الذي بلغ ما يفوق الـ 75 ألفا سنويا وهو ما أدى بدوره إلى ضعف التكوين الأكاديمي الملحوظ من ناحية وإلى عجز الاقتصاد الوطني المختل بطبعه عن استيعاب جحافل هؤلاء الطلبة ضمن دورته التي تشكو هي نفسها من العطالة جراء هيمنة الاقتصاد الخاص وتدني نسبة التأطير في مؤسساته وعدم وجود سياسة تشغيلية حكومية واضحة أو نظام حوافز وتشجيعات خاصة للاستثمار موجهة نحو هؤلاء حتى كاد الانتداب يتوقف على مؤسسات الوظيفة العمومية التي أغلقت أبوابها منذ سنة 2015 وأضحى اعتمادها بصورة كلية على شتى أشكال التشغيل الهشة ولتقضي معادلة الوفرة (طالب الشغل) / الندرة (مواطن الشغل) على أحلام مئات الآلاف من حاملات الشهادات العليا وحامليها في الحصول على موطن عمل يكفل لهم الارتقاء الاقتصادي والانعتاق الاجتماعي ويسمح لهم بالاستقرار النفسي والأسري المرجو وقد ناهزت نسبتهما العامة تقريبا 23,1 % في الثلاثية الرابعة من سنة 2022 لترتفع مجددا خلال الثلاثية الأولى من سنة 2023 وتصل إلى نسبة 24% أي حوالي 4/1 عدد المعطلات والمعطلين عن العمل الذين بلغت نسبتهم بدورها 15,2 % في الربع الأخير من سنة 2022 ثم 16,1 % في الثلث الأول من سنة 2023 ووصل مجموعهم إلى 624,600 ألفا في نفس الثلاثية الأولى من سنة 2023 مع الإشارة إلى أن هذه البطالة قد مست شرائح كانت تعتبر تقليديا في منآى عنها وتصنف كمهن نبيلة من قبل حملة الدكتوراه والطب والهندسة مثلا.
وهكذا يتبين لنا أن التعليم العالي لم يعد ذاك المرقى الاجتماعي المأمول خاصة مع اندثار الطبقة الوسطى بفعل الأزمات الاقتصادية المتتالية وسوء السياسات التشغيلية المتبعة وانسداد آفاق النفاذ إلى سوق الشغل وأضحى الخلاص رهين الهجرة خارج الحدود سواء كانت منظمة أو غير منظمة التي طالت ليس الخريجات والخريجين حديثي العهد بل حتى الأطباء والمهندسين ودكاترة الجامعات بل أحد وزراء التعليم العالي نفسه.
إنّ حل هذه المعضلة يقتضي أوّل ما يقتضي:
- مراجعة نظام التوجيه الجامعي ومسالكه.
- مزيد الرّبط العضوي بين المرحلتين الجامعيّة والثّانويّة وإحكام العلاقة بينهما على أساس هيكلة جديدة جامعة تجعل من التعليم الجامعي امتدادا لمسار التعليم الثانويّ بشعبه المتنوّعة.
- ربط مسالك التّوجيه باحتياجات الاقتصاد الوطني الحقيقيّة وجعل التعليم الجامعي مرحلة إعداد فعليّ للكوادر والطاقات التي يستحقّها وليس مجرّد منفذ يمكّن الدولة من استيعاب أعداد الطلبة المتوافدين عليه.
- استشراف نظام التوجيه وشعبه لمستقبل المهن الحالية وآفاق تطوّرها والحاجة إليها مع الأخذ بعين الاعتبار المهن الجديدة المستحدثة التي ستمليها التطورات العلمية والتكنولوجية ومتطلبات الاقتصاد الوطني على المدى المتوسط والبعيد.
- ربط مطلب إحياء التعليم التقني والمهني باستحداث شعب جامعية جديدة ملائمة لاختصاصاته تفتح الآفاق أمام متميزات خريجاته وخريجيه من خلال بعث باكلوريا تقنية / مهنيّة.